كل فتاة بأبيها معجبة
أمضيت مع والدي -رحمه الله- فوق 30 سنة، منها 23 سنة كان يسكن البيت الذي حتى الآن أسكنه كنت أحادثه كثيراً وكان يجعلني رفقيته في ذهابه وإيابه كنت معه نهار مساء تفصلني عنه أوقات ذهابي للمدرسة أو الجامعة، أما بقية الوقت كنت معه أحل واجباتي بجواره أحياناً أقرأ له وأنا أستند عليه وكان متفرغاً لي فقد أمّن لنا حياتنا -بعون من الله- وبدأوا أخوتي بحياتهم الخاصة لفارق السن بيني وبينهم فكنت الصغرى التي أتت بعد أبناء بفارق زمني، وبرفقتي ووالدتي في البيت كان يومه مليئاً بي وبوالدتي ويومنا مليء به، إلى أن جاء عام 2007م بدأ يشتد مرضه وبدأ يتعب شيئاً فشيئاً وأصبح يحتاج لرعاية أكبر وكنت حينها في سنتي الثانية الجامعية، فآثرت والدتي أن تقوم هي برعايته وألا تباشره خادمة أو خادم واحترمنا جميعاً رغبتها بذلك، وفعلاً قامت به والدتي الوفية ورعته حق الرعاية إلى اللحظة الأخيرة له بيننا، وبطبيعة الحال لم أتركها تقوم بذلك وحدها فأصبح يومي مبني على يومه وحاجاته وأصبحت أشد قرباً منه حتى في وقت نومه أذهب لأطمئن عليه وأحياناً أجده مستيقظاً فأجالسه، وكنا قد تقاسمنا الليل كانت والدتي تبدأ من 11م إلى 3ص، وأبدأ أنا من 3 ص وحتى وقت ذهابي لجامعتي، ثم أجهز لوالدتي ما تحتاجه وأذهب وتكون هي مرافقة له لحين عودتي، وأخوتي يحضرون بعد المغرب لحين العاشرة مساءً وهكذا دواليك إلى أن تخرجت ثم اجتزت السنة التمهيدية للماجستير وسجلت رسالتي عام 2011م، وكان إعداد الرسالة من البيت، فازددت ارتباطاً به فلم يعد هناك وقت يفصلنا عن بعضنا فأصبحت أشد وأشد قرباً له ومنه -وبطبيعة الحال من والدتي كذلك-، كان جدول يومي مبني بشكل كامل على جدوله، أناوله أغراضه وأطمعه وأذيب أدويته وأناولها له وآخذ بيده للصلاة وأوجهه للقبلة وأذكره إن نسي وغير ذلك من التفاصيل التي أذكرها جيداً، واستمر وقت الليل بيني وبين والدتي فكنت آخذ جهاز الحاسوب وأجلس أتابع والدي وأثناء ذلك أبحث وأعدّ رسالتي، واستمر ذلك حتى 2013م حيث تمت لي المناقشة وأخذت درجة الماجستير، وحين عودتي للبيت من المناقشة كان أخي قد طلب الإسعاف ووجدته متعباً فنُقل للمشفى وهنا كان لابد أن تجرى له عملية جراحية فورية وكانت أول عملية يدخلها والدي في مرضه ولا يمكن أي حرف بأي لغة أن يصف ذلك الشعور الذي عصف بي، وكان يحتاج بعد تلك العملية إلى رعاية خاصة فجهز أخوتي غرفة بالمنزل بالمستلزمات الطبية حيث كان يتطلب رعاية طبية خاصة بعد عمليته تحتاج ممرض يقوم برعايته، وقمنا بتغيير يسير في تصميم المنزل حتى يستطيع الممرض المنزلي خدمته مع حفظ خصوصية البيت وساكنيه، وتقاسمنا الوقت مع ذلك الممرض حيث يحضر وقت معين للقيام بالإجراء الطبي اللازم وهو مرتين يومياً بالإضافة إلى مرافقته من 1ص إلى 7ص، ثم تحضر والدتي الوفية الأصيلة لترافقه لحرصها على أن تكون بجانبه، وحينها توظفت محاضراً في كلية القانون في 2014م، فأصبحت أختار أن يكون جدولي مسائياً، حيث أكون في الليل أتابع الممرض اتصالاً والوضع الصحي لوالدي والاحتياجات اللازمة له ليلاً وبذات الوقت أحضّر العروض التقديمية للمحاضرات وأحضّر للدروس التي سأقدمها خلال الأسبوع، ويأتي الصبح وأجهز لوالدتي احتياجاتها ثم أرتاح لحين وقت الدوام (أسهر ليلاً وأنام صبحاً وأداوم بعد 12 ظهراً)، وكنت أصاحب والدي ووالدتي وقت العشاء إلى 12 مساءً بذات الغرفة بذات البيت الذي أنا أعيش به الآن، كنت أتحدث معه، أحياناً يتمكن من الرد وأحياناً لا يتمكن، وكنت أقرأ عنده الكتب عندما أخلو معه أقرأ وأشاركه ما أقرأه فكنت أحياناً ألمح منه تفاعله وأحياناً لا يتمكن، فأصبحت بجوار سريره دائماً في كل وقت أكون به في المنزل، وابتعدت نوعاً ما عن الاجتماعات والسفر والترفيه لأن اللحظة التي أكون فيها بجواره تعني لي أكثر من أي متعة في الحياة، وفي آخر سنة كان يحتاج رعاية أكثر فأصبحت هناك أوقات معينة أجلس معه بها أقل من السابق، واستمريت على ذلك حتى 2021م مع تغير وقت العمل ونوعه إلا أن وقتي معه ثابت.
وفي الثلث الأول من 2021م استجدت أمراض متعددة عنده يلحق بعضها بعضاً وأصبح وقوف الإسعاف عند البيت أمر ليس بمستنكر، لم أعد أخشى صوت ولا شكل ولا أجهزة الإسعاف، وقد جاء ذلك اليوم الذي عدت فيه من العمل وكالعادة مررت على غرفة والدي لكنني لم أجده فعرفت أنه الإسعاف مرة أخرى، وفعلاً كان قد أدخل العناية، وبعد مرور عدة أيام أخبرنا الطبيب باستحالة عودته للمنزل وبنقله لقسم الإقامة الطويلة في المشفى لتوقف إحدى رئتيه عن العمل وحاجته لجهاز التنفس الصناعي، وفعلاً كان ذاك إلى أن جاء تاريخ 22 ديسمبر 2021م أدخل العناية وكانت حالته تختلف عن بقية تلك المرات التي يدخل فيها للعناية واستمر فيها إلى أن جاءت الساعة الثامنة صباحاً من يوم الجمعة 31ديسمبر 2021م فيها رحل إلى دنياه الآخرة -رحمه الله-.
كل من ينظر لي يستغرب الحزن الذي مررت به، لأن والدي لديه مرض مزمن بدأه منذ زمن بعيد ناهيك عن تقدمه بالعمر، وما حدث صباح تلك الجمعة طبيعي وطبيعي جداً لمثل حالته، والمفترض استعدادي لوقوعه، وما يحدث لي هو ربما مبالغة، كم مره أراه يكاد يموت أمامي لولا رحمة الله كم مرة أرى لون وجهه أزرقاً لنوبة الاختناق التي تحصل له، كم مرة أراه منتفخاً لحصول احتباس في جسده بل وتكفيني السنة الأخيرة حيث أصبحت الأنابيب في موضع كل شبرين من جسده -بالمعنى الحرفي لكلمة شبرين- وصوت الرئة الاصطناعية بجانبي، أن أقف أسعف والدي في حالة اختناق ونفس منقطع تماماً ووجه مزرّق قبل مجيء الإسعاف مرات عدة موقف لا يستطيع مواجهته إلا شخص لديه قوة قلب وتحمل وتماسك شخص يستطيع تحمل ذلك كله ويتصرف؛ كيف يتصور أنه يبالغ وضعيف لدرجة أنه لا يتمالك دموعه، إنما البكاء رحمه وحب طبيعي من بنت لأبيها الصالح، غير ذلك يعتبر في قاموسي قسوة لا دخل لها بالقوة والصبر، كيف لي أن أتجاوز كل تلك المشاعر والذكريات والأحاديث! كيف لي أن أتجاوز تلك الصحبة والرفقة والقرب كيف يُطلب مني أتخطى بوقت يسير.
إني أحيا -بعد الله- بخيره وتحت ظله وبفضله وبدعائه وبوصاياه أثناء صحته ومرضه وبعد رحيله، يكفي أن أقول أنه كان رفيقي أجالسه وأحادثه وأعتني به وأشعر بعنايته وفرحته بي، كان دعاءه لي “بارك الله فيك” وكان الآخر “الله يوفقك” كان هذا غالب دعاءه وكان كلامه لي حلواً لطيفاً رغم شدته وقوة شخصيته لكن حينما آتي عنده يظهر ذلك الأب العطوف الحريص على بنته يشعرني بأني ابنته الصغرى حقاً ويتعامل معي كأنه لم ينجب قبلي أحداً هكذا كان يشعرني، لي معه في كل شبر من هذا البيت ذكرى جميلة أحاديث ممتعة وصايا ذات معنى وقيمة، وفيما أعتقد أني لم أظفر بوصاياه وحكمته فقط وإنما فيما أعتقده أني أكثر شخص من الأسرة كسب دعاءه، لا يعلمون أني حدثته بكل شيء يحصل معي ربما أكثر من والدتي، لم يعيشوا معي في دقائق يومي المليئة بوجوده بصوته بروحه بحركته بضحكته بأشعاره، لم يكونوا معي وأنا أقرأ له وأنا أكتب له أسرح شعره أرتب لحيته أتفقد أماكن الإبر الطبية وأدلكها له كي لا يتغير لونها، أقلم أضفاره أمسك بيده أقرأ له السور التي يقرأها في صلاته حيث كنت أصلي معه في صغري وأعرف السور التي يحفظها، أرتب له ملابسه ألبسه غترته وعقاله أتفقد برودة المكان ومناسبته له لا أحد كان معي بتلك التفاصيل لا أحد يعلمها ولا أحد يتصورها ولا أحد يشعر بها لذا أواجه نظرة الاستغراب وربما الاعتقاد بالمبالغة أو رهافة القلب الزائدة، ليس صحيح لكنه أبي أولاً وأكثر صحبتي قرباً ثانياً.
كيف لبشر أن يتأثر تأثيراً يسيراً ويمضي بمدة وجيزة وقد فقد من كان معه جُلّ وقته دون فراق ودون بُعد لقد فضلّت أن أجالسه على كل هذه الدنيا آثرت أن أكون بجواره في مرضه على أن ألتحق بدراسة خارج المملكة مع أخي المبتعث آنذاك وآثرت ذلك على أن أسس لي بيتاً وآثرت ذلك على اجتماعات مع أشخاص أحبهم تتعارض جمعتهم مع وقتي معه وآثرت ذلك على حتى بعض الفرص والمكاسب، وكنت ولازلت سعيدة بذلك وأشعر بأني كسبت كل شيء، كيف يريد مني من يراني أن أودعه دون دمع وأن تسير أيامي دون بكاء بين حين وآخر، كيف لي ذلك في أول الأشهر من رحيله وحتى في أول سنة كيف يطلب مني أن أكون مستعدة وأمضي بتأثر يسير كيف يُستغرب البكاء والحزن؛ إنما هو الأمر الطبيعي وما عداه قسوة، لم يكن أحد يعلم تفاصيل يومي معه على مدار 23 سنة متواصلة -بالمعنى الحرفي لكلمة متواصلة يومياً كل وقت اليوم أو غالبه-، لم يكن أحد يعلم عمق صحبتنا فيما قبل ال23 سنة ولا يذكر أحد تفاصيل طفولتي كيف كان يغني لي ويشتري لي ما طلبت وما لم أطلب كيف كان يحملني على ظهره ويجري بي في أنحاء المنزل كيف كان يجعلني بصحبته أينما ذهب كيف كان يساعدني على ركوب الخيل ويشجعني كيف كان يستأمنني على أوراقه الرسمية وأمواله من صغري كيف كانت ملامحه وهو يسأل الطبيب عن حالي ثم يأخذني بعد كل موعد ليشتري لي لعبة يسعدني بها كيف كنت أحتمي بظهره من أخي عندما نلعب سوياً كيف كان وكيف كان، أنا من عشت تلك اللحظات وأنا من أذكرها وأذكر شعوري أثناءها، وبعد مرور سنة من تلك الجمعة أقول إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وستأخذ تلك النفس التي بين جنباتي حقها الكامل في ذلك حتى تسلو مع الأيام وينزل ربي رحماته علي وجبره لكسر روحي،،
التعليقات مغلقة.